فنان القمة.. محمد عبده نموذجاً

 

 

ليس الوصول إلى القمة أمراً هيناً ؛ ولكن ما هو أصعب البقاء طويلاً عليها. هذه المقولة تنطبق أكثر ما تنطبق على حياة النجوم في الفن والموسيقى والرياضة. لقد شهدنا عبر عقود من الزمن نجوماً لمعت في سماء الشهرة للحد الذي لم يكن لها أي منافس ، لكنها بمرور الزمن وتغير الاجيال تلاشت عن المشهد وغابت في أحيان بصورة مأساوية تثير الشفقة. قد تبقى الأعمال الخالدة والجميلة لأمد بعيد لكن الفنان نفسه معرض للنسيان متى ما اختفى الجيل الذي كان يعظمه. تطلق كلمة ( نجم) على الفنان أو الرياضي أو الممثل وهي كلة معبرة جداً تدل على البروز والبريق والشهرة لكنها تتضمن أيضاً معناً ضمنياً وهو أن النجم يظهر ويسطع ثم ما يلبث أن يأفل ويغيب. وهذه بالضبط دلالة معنى النجومية.

في التسعينات الميلادية كان أحد أهم نجوم الأغنية السعودية والعربية يعاني من تراجع نجوميته بانحدار سريع ظهر كفنان من الماضي وأصبح أكثر عزلة، كان يقيم حفلات لا تليق بمستوى فنان مبتدئ وكان صوته يتلاشى مع الزمن بالإضافة لصحة عليلة بادية عليه.. إنه الفنان الكبير طلال مداح الذي كان في السنوات العشر الأخيرة من حياته نموذجاً واضحاً كيف يمكن لأكثر النجوم شهرة وصيتاً أن يتحول إلى صورة قديمة عليلة غير مرغوبة في الذوق الفني على الساحة الحديثة وعلى الجيل الجديد.. لم يعود صوت طلال مداح إلا بعد وفاته حيث فهم الجيل الجديد ماذا قدم هذا الفنان من إبداعات خالدة وأغاني لا يمكن أن يمحيها النسيان ، أدركوا كم كان نجماً بلا منافس لعقود من الزمن وكيف كان انتاجه الغزير يفوق قدرة أي فنان على الإنجاز، لكن كل ذلك بعد وفاته لم يحظى في آخر حياته إلا بالتدهور وعدم التقدير.. في المقابل يظهر الأسطورة فنان العرب محمد عبده الذي يمثل الذكاء والعبقرية في صناعة النجاح الذي يدوم دون توقف ، جميعنا يتفق أنه يملك حنجرة ذهبية وقدرات إبداعية فريدة وحس فني وقدرة فذة على التلحين والأداء بالإضافة لاختيار الكلمات والقصائد المميزة والمعبرة والتي كانت تشكل طرباً حقيقيا وأصيلاً.. هل كان هذا وحده كافياً للنجاح والبقاء على القمة؟ بالطبع أدرك الفنان محمد عبده أن الموهبة وحدها لا تكفي، وأن أثرها وحده قد يكون أكبر خدعة قد تجعل الفنان يعتمد عليها حتى يتلاشى مع تيار النسيان.

في السبعينات والثمانينات الميلادية كان محمد عبده يستخدم استراتيجيات متعددة لتوطيد موقعه في الساحة الفنية ، كان يهتم مثلاً بأن تكون أغانية متنوعة وتلامس التراث لكل منطقة من مناطق السعودية والخليج العربي .. فهو لم يستهدف الفئة الشبابية الجديدة فحسب ، بل كان يبحث عن قاعدة جماهيرية من الشباب ومن كبار السن ومن جميع أطياف المجتمع فبرع في مجال الأغنية القصيرة والبسيطة وكذلك أدخل الفن السعودي في مجال الأغاني المركبة والحديثة ، وكذلك اهتم بالموروث باعتباره صوت الضمير والوجدان الإنساني في جميع الأجيال.. وعلى حد سواء كان في تلك الفترة يحيط نفسه بهالة من الغموض وقلة الكلام والدبلوماسية وكان كثير التحفظ قليل الظهور في المقابلات التلفزيونية مما صنع له قوة جذب هائلة لدى الجماهير الفنية.. كما أنه تبنى استراتيجية ذكية بحسه التجاري فكان حريص جدا على الاستفادة من مدخولاته المادية من الغناء واستثمارها في مجال التجارة بشكل جيد مما مكنه من إيجاد التدفق المالي المتين في حياته والذي جعله لا يضطر إلى الغناء من أجل المال، ولا أن يرضخ لأي ابتزاز يجعله في موقف ومكان ضعيف يهز من صورته أمام محبيه وعاشقي فنه. في التسعينات الميلادية رأى محمد عبده بذكائه المعتاد أنه بحاجة لوقفة مؤقته عن الظهور لم يسمها اعتزالاً وإنما جعلها استراحة محارب ليعيد ترتيب أوراقه ودراسة مستجدات الساحة الفنية التي تغيرت بشكل كبير مع ظهور فنانين جدد وظهور صرعة الفيديو كليب . كانت هذه الوقفة وسيلة رائعة لترقب الجماهير ومزيد من الجذب والانتظار لما ستؤول إليه حياة الفنان الجماهيري الكبير. بينما هو استثمر هذه الفترة لمرافقة والدته في حالتها المرضية التي اشتدت ذلك الوقت، كما أنه وبصمت وهدوء استمر في العمل بجدية شديدة ومثابرة قوية لألحان جديدة وأغاني في غاية الروعة وتجديد لأعمال سابقة كلها كانت في جعبته لانتظار اللحظة المناسبة للعودة من جديد.

ظهر محمد عبده من جديد للساحة الغنائية بأقوى صورة ممكنة وبأبهة في غاية القدرة على لفت الأنظار من جديد .. كانت حفلات لندن في التسعينيات بإخراجها المبدع واطلالتها الباهرة وحضورها من الشخصيات المرموقة وكانت كما يقول المثل الشعبي ( ضربة معلم) .. في المقابل وبصورة مأساوية معاكسة كان الفنان طلال المداح في الوقت نفسه يقيم حفلات من أجل حل معضلاته المالية لمتدهورة، حفلات من الصنف التجاري البسيط جدا وفي أماكن لا تصلح إلا للمبتدئين .. في درة العروس بجدة!!

مع انطلاقة الألفية الجديدة وجد محمد عبده أن هناك أسماء شابة اكتسحت الساحة الفنية مثل رابح صقر وراشد الماجد وعبدالمجيد وخالد عبدالرحمن وأصيل ..وغيرهم ممن خاضوا تجربة الفيديو كليب بنجاح منقطع النظير. رأى الفنان محمد عبده أن منافستهم في ذات المضمار ستؤول للفشل المحتوم ، لقد اعتاد الناس على محمد عبده الذي يقف على المسرح بأبهة منفردة ، وصورة محمد عبده الذي يتحفظ بقوة ألا يشاركه في لحظات نشوته الغنائية راقصة أو مقاطع أخرى ليس لها علاقة بصوته العذب، وهذا من المزايا التي جعلت محمد عبده مقبولا في كثير من الأوساط المحافظة.. هنا وبفطنته الذكية رأى أن تكون منافسته لهم في المضمار الذي يعدو فيه كالريح ، إنه المسرح والحفلات فلا أحد يمكن أن يتفوق على محمد عبده في الغناء على المسرح وتلك هي نقطة قوته التي يستطيع أن يراهن عليها ، وعليه اختار أفضل الفرق الموسيقية على الإطلاق في الوطن العربي وذلك نتيجة للسيولة المالية الجيدة التي وفرها من تجارته الخاصة كما أسلفنا سابقاً .. وراح يجول العالم بلا توقف ليجدد حضوره حتى للأجيال الألفية الحديثة . في ميدان الحفلات لم يكن لأحد أن ينافس محمد عبده في الأداء بل إن كثير من المطربين كانوا يظهرون على المسرح بأصوات نشاز في غياب المحسنات الصوتية وضعف البروفات وبساطة الفرق الموسيقية التي يتعاقدون معها.. بينما كان محمد عبده دقيقاً في كل شيء مهتم بكل التفاصيل يعيد البروفات بلا هوادة ويعلم جيداً أن الحفلات هي ورقته الرابحة ومن خلالها أعاد أمجاد أغانيه القديمة ورافقها عدد من الأغاني الجديدة الرائعة ، وفي خط موازي بدأ يغير استراتيجية الإعلامية التي كانت في الماضي متحفظة ويحيطها الهالة من الغموض التي كان يصنعها سابقاً.. فأصبح الآن كثير المقابلات التلفزيونية وأقل تحفظاً بل صار يصرح بتصريحات غريبة وعجائبية واعتقد الكثير أنه لا يحسن الحديث في المقابلات بينما كان على درجة من الذكاء من أن يصنع من كل مقابلة تلفزيونية مادة للجدل وحديث الناس واللغط فأحيانا يهاجم فنانين كبار مثل طلال مداح أو أبو بكر وأحيانا يلقي بعبارات غريبة وأحيانا يستظرف المقابلين والمقابلات ويمازحهم ، كل هذا وعينه على هدف رئيسي أن يبقى اسم محمد عبده على ألسنة الناس وألا يتراجع بحكم تقدمه في العمر عن نقاشات الساحة الفنية.

اتخذ محمد عبده من أجل النجاح والبقاء على القمة أسلوب حياة صارم كان يحترم عمله ويدرسه بعناية كما كان بعيداً عن أي شيء يمكن أن يفقده رأس ماله وهو صوته فلم يكن مدخنا ويبتعد بالكلية عن أي أمور تؤثر على صحته ولياقته الفنية. كما أن تواجده بقوة في المناسبات الوطنية لولائه الشديد لوطنه وحبه لأرض الوطن، والتي أعطى هذه المناسبات كل اهتمامه وبرع فيها بشكل منقطع النظير في تخليد ذكرى الوطن مما أدى لتخليد موقعه في عيون الناس بشتى أطيافهم.

من يراقب حياة الفنان محمد عبده يجد أنه كان مهتماً بالجوانب الأخرى من حياته غير الفنية استطاع أن يكون أسرة متماسكة، واستطاع كذلك أن يخرج من تجربة طلاق قاسية دون أن تؤثر على معنوياته بل إنه اختار بعناية شريكة حياته الجديدة التي كانت من أكبر الداعمين له بحكم خبرتها في المجال الصحي لتنظم حياته بشكل يحافظ على صحته وحيويته بأداء ممتاز.
في المقابل نجد أن حياة الفنان محمد عبده الفنية كانت تشكل شخصية منعزلة في الإنجاز الفني، ولا أعلم حتى هذه اللحظة لماذا لم يقم محمد عبده عبر مسيرته الطويلة جدا في الفن بصناعة فنان واحد؟ كان متحفظا على إبداعه ولم ينقل أي شيء مما يملكه من إبداع وخبرة للآخرين ولم يلحن لأحد وكان يختار ملحنيه بشكل شديد الانتقاء والحصر. بينما لو وجهنا العدسة على حياة الفنان طلال مداح كان على النقيض تماماً ساهم طلال مداح بصناعة أجيال من الفنان السعوديين والخليجيين، ولحن لأعداد كبيرة من المطربين الخليجين والعرب وكان مدرسة مفتوحة لنقل كل خبراته وإمكانياته لكل فنان يقابله في حياته.

إن الفنان محمد عبده ليس ظاهرة فنية وحسب .. لكنه أيضاً ظاهرة تستحث الدراسة والتأمل كيف استطاع رغم أنه فنان من الجيل القديم جدا لا يزال رغم مرور أكثر من أربعين عام في الساحة الفنية يتربع قمة الفن العربي بلا منافس ؟ بالرغم من اختلاف الأجيال التي تعاقبت على حياته وكذلك المتغيرات الهائلة في الذوق وأسلوب الأغنية العربية المعاصرة.

أخيراً يجدر الذكر في تصوري بأن تكون فكرة الوقت المناسب للاعتزال فكرة يدرسها فنان العرب بعناية وذكاء ، وكما كانت خطواته للنجاح عبقرية ومبهرة؛ لا بد أن يتذكر أن صناعة النهايات الجيدة هي بحد ذاتها نجاح من نوع آخر.. طالما أننا جميعاً نؤمن أن لكل شيء نهاية.

عن مها العرب

شاهد أيضاً

التعليم ونهضة الأمم

جميعًا نعلم بأهمية التعليم والعلم في نهضة الأمم وأكبر دليل على ذالك إن الله جل …

“أهلة” المغرب .. وصحة ” الرؤية

      لطالما اشتهرت المملكة المغربية منذ القدم بالاهتمام بالشؤون الإسلامية، وعنت بتعظيم شعائر …