يقول الله عز وجل:(ومن يوقَ شح نفسه فأولئك هم المفلحون)، ونحن جميعا لا شك نطمع أن نكون من المفلحين، في كل شأن من شؤون الحياة، وذلك الفلاح كثيرا ما نعبر عنه بكلمة النجاح، ولكن كيف نفلح وننجح، وقد جعلنا المال أكبر همنا، وتسلط على نفوسنا الشح به، على مختلف الصور والأشكال، وإن كان الإنفاق على خاصة شأننا.
حقا إن الدينار والدرهم قد أهلكا الناس، كما قيل منذ زمان، والحقيقة أن الإنسان لا يؤتى إلا من جانب شحه بما تملك يده ولو كان حطاما هشيماً، ومن هذا الشح يدخل عليه الشقاء، فيعانق نفسه، لتغادرَ الراحة من بعدُ هاربةً متخفية، موطنَها في فضاء البال، الذي يأبى الإنسان بجهله إلا أن يشغلَه بغير النافع والمجدي، بل ربما بالضار والمؤذي.
أولسنا نحرص كثيراً على ما لا ينفعنا، ونهتم به، ونفرّط فيما ينفعنا، ولا نهتم به، ثم نشكو من بعدُ فساد الحياة، وضيق البال؟! والواقع أن الشح الذي تعاني النفوس ويلاته، ليس مقصوراً على المال وحده، بل يتعدى إلى شح المشاعر والكلمات، التي تنفقها القلوب لا الجيوب، والحقيقة تقول إن من كان شحيحاً بماله، فهو ولا ريب، شحيحٌ في مشاعره قولاً وفعلاً، والشح الأول يفضي إلى الشح الثاني، إفضاءَ المقدمة إلى النتيجة.
الرجل الكريم ينفق من ماله وكلامه، وفي كلتا الحالتين، يتمثل الكرم، وتزكو النفس وتؤجر، والقرآن الكريم، والسنة النبوية المشرفة، قد رفعا من شأن قولِ المعروف، والكلمةِ الطيبة، وغاية الإسلام أن يكون المسلم محسناً على كل حال، وبهذا الإحسان تتحقق عبوديته الصادقة لله، وليس بأداء العبادات المفروضة فقط.
ثمة أحاديثُ كثيرةٌ واردة في فضل النفقة وأنها صدقة يؤجر عليها المسلم المحتسب، وإن كانت على نفسه وأهل بيته، على سبيل المثال:( إذا أنفق الرجل على أهله نفقة يحتسبها، فهي له صدقة)، (وأنك لن تنفقَ نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجرت بها، حتى ما تجعل في فيْ امرأتك) أي فمها. ولْنتنبه إلى جملة:(تبتغي بها وجه الله) ففيها الأمر كلُّه.
تلك الأحاديث، وحيٌ يوحى من لدن من يعلم طبيعة النفس البشرية، وما جُبلت عليه، (وكان الإنسان قتورا)، والمستفاد منها الحث على البذل ونبذ الشح.
أعود إلى موضوع الشح فأقول، ما الذي يستحق أن يبتلى من أجله الإنسان بالشح؟! وكل ما في يده فانٍ وهو كذلك فانٍ، ولا يبقى له إلا ما قدم من صنائع المعروف، ومواقف الجود، لن تنسى ولن تُجحد، في الأرض ولا في السماء.
وما سوى ذلك فهو خيبة في خيبة، يغتر به الجاهلون، ممن امتلأت نفوسهم بالشح، وهي فارغة جوفاء، وهم خائبون وخاسرون، أبعدُ ما يكونون من الفلاح، معاذ الله، وهل مع الشح فلاح يبقى، أو شرف يذكر، إن الشح ضياع للنفس وللشرف وللمال، وبعبارة موجزة ضياع لكِيان الإنسان.
رحم الله الشاعر الذي قال قديماً، وكأنه أشرف من مكان عالٍ فاطلع على جانب من طبيعة النفس الإنسانية:
وكُلْ إن أكلتَ، وأطعم أخاك فلا الزاد يبقى، ولا الآكلُ
اللهم قنا شح أنفسنا.
Comments