تشهد الساحة الفنية السينمائية في لبنان الدورة التاسعة من "مهرجان بيروت للأفلام الوثائقيّة الفنيّة" (BAFF)، في مغامرة ثقافية فنية تمتدّ زهاء 9 أشهر حتى أواخر يونيو 2024
وفيها عشرات الأفلام، وندوات عديدة، وتُقام فعالياته في بيروت أساساً، وتنتقل إلى بقية المناطق، ويشارك فيها العديد من المؤسسات والجمعيات الأهلية وسفارات أوروبية.
وتناولت مؤسّسة المهرجان أليس مغبغب خلفياته وأهميتها، والمحطات اللافتة فيه مستهّلةً كلامها عن استمرار المهرجان رغم الصعوبات بأنه "يدلّ على تمسّك اللبنانيين بالحياة الثقافية، ويسمح لنا أن نواصل لأن بلداً بلا ثقافة ليس بلداً".
المهرجان يمثل تحدّياً قلّ نظيره في فترة زمنية عصيبة تتفاقم فيها الأزمات والمشاكل، ولكن، كما تقول مغبغب، "ليس أمامنا خيار سوى الإصرار، والاستمرار للحفاظ على حياة بلدنا وحضارته، فقد كفانا 60 عاماً من الحروب والتوتر والاضطراب".
ويعرض المهرجان عدة مستويات فنية - ثقافية منها "الحفلات، والأفلام، وندوات عديدة حول الفن والتراث والمجتمع مع كبار المتخصصين، ويولي الشباب الأفضلية"، بحسب مغبغب التي ذكرت أن "الظروف الصعبة التي مررنا بها، ونمرّ بها الآن فيما تشهده فلسطين، كانت ظروفاً صعبة للغاية في التحضير للمهرجان، حيث لا شيء يتم بسهولة"، مثنية على دور الأصدقاء المحليين والعالميين الذين لا يزالون حاضرين لــــ "مساعدة لبنان، ويدعمون نشاطاته الثقافية والفنية".
وعادت مغبغب إلى عام 2018 الذي أفضت صعوبته إلى أن يكون الدورة الحالية، أي بعد 5 سنوات من بدء التحضير له، حيث "بدأنا وضع برنامج المهرجان، ولم نستطع تنفيذه"، تقول مغبغب، مضيفة أنه "جرى اختيار فيلم لعرضه في المدارس، ولم نستطع تنفيذه، وهذا العام قررنا الانطلاق من المدارس بعد سنوات الأزمة".
وانطلق المهرجان من المدارس بالتعاون مع وزارة التربية اللبنانية، التي دعمت مسيرة انطلاقته "جمعية فيليب جبر"، وكان الانطلاق بفيلم وثائقي بعنوان "معركة الأرز" للبيئي يوسف طوق، الذي قالت مغبغب عنه إن "معركته كانت كل حياته كيف يزرع شجرة في جبال الأرز، وكيف نجح بالمعركة حيث أعاد الجبال تعج بالحياة".
البرنامج وُضِع بشكلَين: الأول، "فيديو لينك" للفيلم، تولى المهرجان توزيعه على المدارس الراغبة بالمشاركة بعرضه، وأرسل عبر الإيميل، والثاني، جرى عرض الفيلم بالمكتبة الشرقية التابعة لجامعة القديس يوسف (اليسوعية)، داخل مسرح ليلى التركي، وظلت العروض مستمرة بين 7 و 17 تشرين الأول/أكتوبر الماضي بعرضين يومياً، وأحياناً بثلاثة عروض.
وترافقت العروض بزيارة إرشادية للمكتبة الشرقية تحفيزاً للطلاب على الإطلاع على الكتب، وغطّت "جمعية جبر" نفقات الانتقال وتأمين الناقلات، وتصف مغبغب الأجواء بأنها كانت مفعمة بالحيوية، والفرح، وعبّر الطلاب عن سعادتهم بالتصفيق الطويل للفيلم"، وسيطلق المهرجان فيلما توثيقياً للنشاط في المدارس التي عرضت الفيلم.
مغبغب علقت على أهمية الفيلم بقولها: "إنها معركة الحياة، فلو لم يكن هناك شجر، لما كان هناك ماء، وبلا ماء لا توجد حياة".
في مرحلة ثانية من المهرجان، جرى عرض 19 فيلماً، ومحاضرتين، ومعرض تكريمي للمخرجة إليان الراهب ضمن جائزة اليرعات الذهبية التي أطلقها الممهرجان منذ 6 سنوات، والهدف تكريم متواضع للمرأة في عملها السينمائي، وكيف عملت المرأة على تحصين مجتمعنا عبر السينما.
وتحدثت مغبغب عن العديد من المؤسسات المحلية والعالمية التي ساعدت المهرجان، مما "مكّننا من الحصول على الأفلام التي أحببناها وتم اختيارنا لها، وسيجري عرضها في مختلف المناطق اللبنانية من دون استثناء، قبل حزيران/يونيو المقبل".
وشهد المهرجان إقبالاً واسعاً على عروض الأفلام حتى الآن، وتفيد مغبغب أن مردودها المادي خُصِّص لدعم منح جامعية في معهد الدروس السينمائية في جامعة القديس يوسف (اليسوعية)، وقالت إنها أرادته مهرجاناً يشبه لبنان، "حيث الناس يستطيعون التعايش معاً، فنتساعد، ونتطلع إلى المستقبل نحو المصير المشترك، ليظل للبنان ثقافته، وحفاظاً على حضارته".
وأضاءت مغبغب على أهم الأفلام في المهرجان، من وجهة نظرها، وتحدّثت عن العرض الأول وهو فيلم "إلياس الرحباني – ثالث الرحابنة"، وثائقيّ عن حياة الملحّن اللبناني (1938 - 2021) ومسيرته المهنية وإرثه الفنّي، وسيعرض الفيلم في مختلف المراكز الثقافية اللبنانية في الربيع المقبل.
ثم الفيلم الوثائقي الكندي "لون الحبر"، وهو عن الحبر في الطبيعة.
ومن الأفلام، فيلم "بيروجينو نهضة دائمة" في الذكرى الــ 500 على رحيل الفنان الإيطالي بيروجينو مع معرض لأعماله.
وشاءت مغبغب أن تولي الكتاب أهمية خاصة، فتم اختيار فيلم عن كتاب Umberto Eco، بفيلم "أمبرتو إيكو: مكتبة من العالم"، ويستعرض فيه المخرج دافيد فيراريو، من خلال الجمع بين الأرشيفات والمقابلات، نظرة للعالم بحسب رؤية الكاتب الإيطاليّ أمبرتو إيكو (1932-2016) وتفكيره. ويعرض إيكو مكتبته الخاصّة ومن ضمنها حوالى 30 ألف كتاب، وهو مكان يجسّد، أكثر من كونه مساحة من الثقافة والأدب، رمزاً للذاكرة العالمية.
وأيضاً فيلم عن رواية "العائلة" (The Family) للبناني هاجر إلى فرنسا وعمل في السينما، وأصبح من أهم منتجي السينما لخمسين عاماً بين فرنسا والولايات المتحدة. وعنوان الفيلم هو "السينما في العروق"، إخراج فلوران ماييه وميشيل دينيسو، ويعرض رحلة عائلتين من أكثر العائلات تأثيراً في السينما الفرنسية: المنتجان الفرنسيان - اللبنانيان بول وجان-بيار رسّام وصهرهما، المخرج الفرنسيّ كلود بري، والتراث الغنيّ لسلالة فرضت مكانتها بشكل سريع على المستوى الدولي.
ثم فيلم "ما وراء الورق" (AU-Dela du Papier)، الذي يحكي قصة الانتقال من الكتابة الورقية إلى الرقمنة، ويطرح أسئلة هامة عن مستقبل البشرية في ظل هذا التحول، وتصل المخرجة أوانا سوتو خينتيريان به إلى أقدم مكتبة في العالم وهي مكتبة Chinguetti في موريتانيا.
وتطرح المخرجة موضوع مكانة الورق في مجتمعنا وتساؤلاً عن علاقتنا بنقل الذاكرة البشرية: كيف نحافظ على تراثنا في عالم يبدو فيه كلّ شيء رقميّاً.
وكذلك فيلم "الشاعرة" عن شاعرة سعودية تحكي قصة نضالها شعراً؛ وهو وثائقيّ من إخراج ستيفاني بروكهاوس وأندرياس وولف، يروي قصّة حصّة هلال التي تتحدّى الأعراف الثقافية من خلال مشاركتها في مسابقة "شاعر المليون"، الذي يشارك فيه الرجال تقليدياً، إلى جانب أفلام عديدة وثائقية في مجالات الهندسة المعمارية، والسينما، والرقص، والرسم، والموسيقى، وتصميم الأزياء وسواها من مواضيع.
وختمت مغبغب بالقول: "لنا الحق أن نستمر، وأن لا نخضع للخوف، رغم الأزمات، وأجواء الحزن التي تفرضها أحداث فلسطين، وما تتعرض له غزة من حالة بربرية غير إنسانية، ولنعلم أننا كلنا ننتظر إمكانية أن نتحوّل إلى غزة، ولا أحد يؤمن لنا مستقبلنا، وعلينا أن نؤمّنه بأنفسنا".
Comments