في ميدان العتبة الشهير بالعاصمة المصرية القاهرة، وبالقرب من المسرح القومي العريق، يتابع رواد أحد الأسواق الشعبية مشهداً يتكرر كل ليلة: مغنية أوبرا تقف الساعة 9 مساءً (6 بتوقيت جرينتش) لتصدح بمقاطع من معزوفات عالمية، يرافقها زميلها المغني ليُكمل المعنى.
ورغم صخب أصوات الباعة والمارة في الميدان المزدحم، إلا أن المشهد الافتتاحي لمسرحية "أوبرا العتبة"، الذي تقدمه المغنية الأوبرالية وزميلها، يلفت انتباه المارة ويثير شغف المتجولين، مما يدفع البعض منهم إلى الدخول لمعرفة سر وقوف المغنيين في هذا المكان.
المشهد نفسه يبدو مثيراً لجمهور المسرحية، التي تُعرض على مسرح الطليعة في منطقة العتبة وتحظى باهتمام إعلامي وتستقطب جمهوراً متنوعاً منذ بدء عرضها قبل نحو ثلاثة أسابيع. بعد المشهد الافتتاحي الذي يبدأ في الشارع، يدخل الجمهور إلى المسرح ليجد نفسه أمام خشبة تقليدية مقسمة إلى قسمين: في اليمين، يرتب رجل أركان مكتبته ويبدو عليه مظهر المثقف القابع في برج عاجي، بينما تجلس سيدة حائرة تمسك بجهاز تحكم عن بعد ينقلها من قناة فضائية إلى أخرى، قبل أن تقرر الاتصال بالسوبر ماركت.
تطلب السيدة من السوبر ماركت سلعاً متعددة تعكس نهمها للاستهلاك، ويبدو أنها محاصرة بخوفها المرضي من نقص السلع والأدوية، ومن عودة زوجها الذي يعمل في الخارج بينما تستنزف هي مدخراته.
مؤلف المسرحية ومخرجها، هاني عفيفي، قال لوكالة أنباء العالم العربي (AWP)، إن هذا العمل تأسس على مفارقة العلاقة بين الداخل والخارج؛ وأنه أراد منه "نقل الداخل إلى الخارج والعكس". وأضاف: "تنقل المسرحية إجمالاً الصخب العشوائي في الأسواق المجاورة إلى داخل المسرح؛ كما ترغب في استقطاب جمهور تلك الأسواق ليتحرك إلى داخل المسرح ويكسر اغترابه عن نوعية معينة من الفنون يظن أنها نخبوية، في حين أنها جماهيرية لكنها تعجز عن الوصول إليه".
وأشار عفيفي إلى أن ما وصفه بالحصار الذي تفرضه الأسواق العشوائية على موقع مسرح الطليعة والمسرح القومي، هو الذي ألهمه بفكرة العرض؛ إذ أصبح المسرحان اللذان يمثلان القيم الثقافية في عزلة عن المجتمع والجمهور، الذي لا يدرك قيمة المسرحين ولا يعرف كيف يصل إليهما.
ويرى الناقد المسرحي أحمد خميس، أن المسرحية تخوض مغامرة يومية من خلال مشهد مغنية الأوبرا التي تقف وسط الميدان بين الباعة الجائلين وتثير اهتمامهم، ويصف فكرتها بأنها "شجاعة، لأنها تستفز الجمهور وتدين عزلة المثقف وتكشف قبح ثقافة الاستهلاك".
وقال: "العرض ينتمي إلى عروض الاسكتشات التي لا يجمعها رابط أو خيط درامي واحد، لكنها تطرح قضاياها على المتفرج وتنقل ما يحدث في المجتمع".
خلال العرض، الذي يستمر نحو ساعة، يُتابع الجمهور مجموعة من الاستعراضات التي تكشف حالة من التشوش العام، وتنقل استجابة الجميع لما تطرحه مواقع التواصل الاجتماعي من قضايا تصبح على رأس أولويات المجتمع. يظهر داخل المسرح ممثلو العرض وهم يؤدون أدوار الباعة ويمسكون بمكبرات الصوت الصاخبة؛ كما ينقل النص معاناتهم في ظل صعوبات الوضع الاقتصادي.
أشاد خميس بقدرة مؤلف العرض ومخرجه على "تمرير رسائل وانتقادات بمنتهى الحرفية والمهارة دون التورط في صدام مباشر مع الرقابة؛ إذ اعتمد على آليات التهكم والكوميديا لكشف الطابع العشوائي وأثره على المجتمع". ينتهي العرض وجميع الأطراف محاصرون بمجموعة من صناديق السلع والأدوية بعد تفشي حالة الخوف المرضي، وتلقي المسرحية أيضاً الضوء على قضية اغتراب المثقف القابع في برجه العاجي غير القادر على الاشتباك مع القضايا اليومية؛ فهو غارق في متاهة المصطلحات الفلسفية ومنفصل تماماً عن التحديات التي يفرضها الواقع.
يرى خميس أن المسرحية ترفض تصنيف الإنتاج الفني قياساً إلى مدى استجابته لمطالب فئة أو شريحة من المثقفين أو الجمهور، وتنتصر لقبول فكرة التعدد "إذ لا تعارض بين الشعبي والنخبوي طالما أنه يحقق المتعة".
تجسد شخصيات المسرحية مجموعة من الممثلين الهواة، إلى جانب الممثلة دعاء محمد حمزة والممثل محمد عبد الفتاح (كالابالا). أما المخرج هاني عفيفي، المتخرج في ورشة الإخراج بمركز الإبداع الفني في دار الأوبرا المصرية، فقد قدم مجموعة من العروض، منها "عن العشاق"، و"مشاحنات"، و"ولا في الأحلام".
Комментарии